احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

نور .... نور الله بصيرتها

كنت أدرس فصل النون الساكنة في إحدى دور تحفيظ القرآن، وكان الفصل خليطاً من الفتيات، والشابات، والأمهات؛ منهن من تدرس في مراحل التعليم العام، وبعضهن ملتحقات بالجامعة، وبضع طالبات أكملن دراستهن الجامعية حديثاً أو قبل سنوات عدة، وعدد من الأمهات توقفن عند المرحلة الابتدائية، منهن من أكملتها، ومنهن من اكتفت بفك الخط كما يقال.

كان المقرر يشتمل على حفظ جزأي عمّ وتبارك، وإتقان أحكام النون والميم الساكنتين والمشددتين، والتنوين. وكان من المفترض أن يكون الاختبار في نهاية الدورة موحداً رغم التباين الواضح بين الطالبات.

حاولت إقناع الأمهات بأن وجودهن في فصول الأمهات خير لهنّ للأسباب السابقة لكنّهنّ تمسكن بالاستمرار مع زميلاتهن، فقبِلتُ على مضض.

كانت الخالة (نور) تناهز الستين من عمرها، لم تكمل المرحلة الابتدائية، وبناء على هذه المعطيات وحسب مقاييس أهل الدنيا فإن حظها في حفظ القرآن سيكون أضعف من بقية زميلاتها في الفصل، ونصيبها من تدبر معانيه سيكون قليلاً جداً.

لكن الله تعالى أعلم بمواضع فضله، ولحكمة يعلمها يجعل الانتفاع بالقرآن، والتأثر به، والاهتداء بهديه فرع عن صدق الإقبال عليه، وإحضار القلب بين يديه.

كانت الخالة (نور) امرأة غزيرة الدمعة، لا تملك عينيها إن تُليت عليها آية فيها مشهد من مشاهد القيامة والحساب.

كان ذلك ديدنها طوال ثلاثة أشهر رغم حرصها على تصويب قراءتها، ومع إقبالها العجيب على الحفظ، لا تكاد تقدر على إكمال آية فيها وعيد بنار، أو وعد بجنة!

تبدأُ الآيةَ فتغلبها عينُها، فتغالب دمعها وتعود للقراءة، فيعلو نشيجها، تحاول أن تتماسك ثم تعيد الكرة، فتسح عيناها مرة أخرى، تمضي الدقائق، وبقية الحاضرات من حقهن القراءة ليصوبن أخطاءهن، فأعتذر منها، وأنتقل للأخريات، ثم أعود إليها في آخر الحلقة، فتتقاطر دموعها على خديها تارة أخرى.

كنت أحرص على التفسير المبسط في كل حلْقة، مع بعض الفوائد والرقائق، لكني أجزم أن دموع الخالة نور كانت أبلغ من كل كلمة قلتها. كنت أحس أن كلماتي تخرج من ذهن بارد، فينحصر أثرها على فهم المعلومة ومعرفتها، أما عبراتها فكانت تنبع من قلب حار، فتخترق القلوب، وتهز النفوس.

إن كانت هذه امرأة شبه أمية عاشت بعد النبوة بقرون متطاولة، فكيف يكون أثر القرآن على أهل العلم ممن عاشوا في القرون المفضلة، بل كيف كان أثره على الصحابة الكرام الذين عاصروا التنزيل وشهد لهم القرآن بأنهم من المرضيين، بل كيف كان حال النبي الأواب المنيب الذي تنزل عليه الوحي، أتقى العالمين وأزكاهم، وأبرهم وأوفاهم. ألا ما أبعد ما بيننا وبين الأفاضل والصالحين الذين أثبت حالهم الرحمن فقال: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا).

أذكر أني لما أردت إعداد الاختبار حرصت أن أختار مقاطع تستطيع أن تقرأها لكنني كلما مررت بسورة وتأملت معانيها وجدت أنها تقرع القلوب الحية قرعاً، وفي كل آية عبرة لمن يخشى.

وعند وضعي للدرجات عز علي أن أرى الكثيرات يتقدمنها. فأحسست أن معاييرنا في تقييم الطالبات فيها شيء من خلل. فمثلها ومثل زميلاتها كتلميذتين جلستا لاختبار في النحو والإعراب، أما الأولى فأحرز الدرجة الكاملة لأنها تمكنت من تحديد الفاعل والمفعول والحال والصفة، لكنها إن كتبت سطراً أو تفوهت بجملة نصبت الفاعل وجرت المفعول، وأما الأخرى فرسبت في الاختبار رغم أنها فصيحة بليغة لا تلحن في جملة ولا عبارة!

لقد وضعت قواعد اللغة لتصحيح الكلام والاحتراز من اللحن فتفوقت التي لم تصل بالوسيلة للغاية، ورسبت التي بلغت الغاية دون حاجة لمثل تلك الوسائل!

ألا ما أتعسنا إن انحصر اهتمامنا في تلاوة القرآن على مراعاة مقادير المدود وزمن الغنن، ودفع الصوت، ونغمة القراءة، وصرفنا التركيز على ذلك عن تدبر المعاني.

ما انتفع بالقرآن من انصرف إلى الاهتمام بفتح الفك وغفل عن فتح القلب، وما تلذذ بتلاوته من اهتم بإطالة المد، وتشاغل عن إطالة الفكرة في كلمات الحكيم الحميد.

إن القراءة التي تجلو البصائر، وتغسل ران القلوب، هي التي يجتمع فيها القلب والعقل، وتقبل فيها النفس على القرآن بكليتها لا تنصرف عنه إلى ما سواه.

اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق